مقدمة
مع الإعلان عن تشكيل الحكومة السورية الجديدة، المقرر أن تقود المرحلة الانتقالية على مدى السنوات الخمس المقبلة، تقف سوريا، دولةً وشعبًا، عند مفترق طرق حاسم. يرتبط هذا المنعطف الحاسم بأداء الحكومة الانتقالية والعقلية السياسية التي تُشكل استراتيجياتها على جميع المستويات. تتحمل الطبقة الحاكمة وممثلوها اليوم مسؤولية تاريخية في التعامل مع تحديات كبرى ستُشكل مستقبل البلاد لسنوات، وربما عقودًا. وفي مقدمتها التحديات السياسية، بقضاياها الداخلية والخارجية، التي تتشابك مع معظم التحديات الأخرى (الاقتصادية والأمنية والاجتماعية)، بل تُشكل جوهرها، وتُحدد أدواتها، وترسم مسارها النهائي.
تواجه الحكومة الانتقالية الجديدة تحديات سياسية كبرى، منها ما يتعلق بالوضع الداخلي بكل تعقيداته وسياقاته المحلية، ويرتبط بإرث النظام السابق الثقيل وتاريخ طويل من العزلة السياسية واستغلال أجهزة الدولة لحماية السلطة. وقد أدى ذلك إلى تشوه العلاقة بين الدولة والمجتمع بمختلف مكوناته. في ظل سقفٍ عالٍ من التوقعات السياسية الداخلية، وخاصةً من قِبَل الحشد الثوري، الذي يربط هذا السقف بالتكلفة الباهظة التي تكبدها على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية، بالإضافة إلى توقعات التغيير التي تنتظرها جميع الفئات والمكونات الاجتماعية والسياسية، تواجه الحكومة الجديدة عقباتٍ مُعقّدة، في مقدمتها بناء شرعية سياسية داخلية للسلطة القائمة. ولن يتحقق ذلك إلا باستكمال وتجاوز الالتزامات الوطنية الحساسة، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وتنشيط الاقتصاد، والحفاظ على الوحدة والأمن والاستقرار.
على صعيدٍ آخر، لا شك أن التفاعل الإقليمي والدولي الإيجابي مع سوريا الجديدة قد منعها من أن تصبح ساحةً للصراع بالوكالة، كما حدث في ليبيا مثلاً. على الرغم من أن مرونة الإدارة الجديدة وطبيعة استجابتها للمطالب الداخلية والخارجية قد عززت فرص هذا التفاعل الإيجابي، إلا أن السياسة الخارجية لا تزال تطرح تساؤلات وتحديات لا تقل خطورة عن الوضع الداخلي، لا سيما في ظل نظام أمني إقليمي غير مستقر ومتطور، وفي ظل توقعات ومطالب قوى دولية وإقليمية متضاربة المصالح، بعضها لا يزال فاعلاً بشكل مباشر على الأرض وفي الأجواء السورية. في هذا السياق، يأتي سؤال ما تريده القوى الدولية والإقليمية من الحكومة السورية الجديدة قبل سؤال ما تريده الحكومة السورية نفسها، لا سيما في ظل تباين وتضارب مطالب ومصالح هذه القوى، والتي يرتبط معظمها بقضيتين مهمتين متداخلتين: الأولى تتعلق بالدور الجيوسياسي لسوريا في المنطقة، والثانية تتعلق بطبيعة القيادة الجديدة التي تولت السلطة، ممثلةً بهيئة تحرير الشام، وما يصاحبها من مخاوف وتوقعات حذرة بالتغيير. سوريا إقليميًا: بعد النفوذ الإيراني
تواجه سوريا تحديًا جوهريًا يتمثل في إعادة تحديد دورها الجيوسياسي وإعادة تموضعها ضمن النظام السياسي-الأمني الإقليمي الناشئ، والذي يشهد تراجعًا في النفوذ الإيراني وتراجعًا في أدوات “محور المقاومة” المرتبط به. يتقاطع هذا مع احتواء واستهداف الجهات الفاعلة/”الميليشيات” دون الحكومية في المنطقة (لبنان، فلسطين، سوريا، العراق، السودان، اليمن)، في مقابل محاولات إقليمية ودولية لملء الفراغ الناتج، أو حتى استغلال الظروف لفرض واقع أمني-سياسي جديد بالقوة، على غرار السياسة الإسرائيلية في المنطقة عمومًا وفي سوريا خصوصًا.
في خضم هذه التعقيدات، تواجه الحكومة السورية تحدي إعادة رسم تحالفاتها الإقليمية والدولية الجديدة بما يحقق لها شرعية واستقرارًا سياسيًا وأمنيًا أكبر، ويضمن لها القدرة على مواجهة تحديات أكبر مستقبلًا، ويحقق اندماجًا فعالًا ومستدامًا في النظام الإقليمي والدولي، مع الحفاظ على استقلالية القرار السوري. إلا أن إرساء هذه المعادلة لا يبدو سهلاً، سواءً تعلق الأمر بالمنطقة والدول المحيطة بها بمصالحها المتنوعة، أو بقوى دولية أخرى متضاربة الأهداف والمصالح في سوريا. وبين ذلك، يبدو أن السياسة السورية الجديدة تسير بخطى ثابتة نسبيًا تجاه العالم العربي، وخطوات حذرة تجاه موسكو وبكين، لصالح الاقتراب من محور الغرب وحلف الناتو (الولايات المتحدة وأوروبا وتركيا). وبينما تبدو هذه الخطوات السياسية محاولةً لتحقيق التوازن في إدارة العلاقات الخارجية والاستجابة لمطالب ومصالح القوى المختلفة، دون تقديم تنازلات كبيرة أو الدخول في تحالف واضح، إلا أنها تُمثل أيضًا رهانًا محفوفًا بالمخاطر في سياق حساس، في ظل تحالفات هشة وغير مكتملة وسلطة حديثة التشكل. فيما يتعلق بالعلاقات مع تركيا، فإن إدارتها بشكل متوازن أمر بالغ الأهمية في هذه المرحلة. لأنقرة مصالح واضحة في منع قيام كيان مستقل في شمال شرق سوريا وفي تأمين حدودها. كما تطمح إلى دور اقتصادي وسياسي رئيسي في سوريا وعبرها. في المقابل، تنظر حكومة دمشق إلى بعض الأهداف التركية على أنها مصلحة مشتركة في الحفاظ على وحدة أراضي سوريا واستقرارها. وهي تدرك أنها بحاجة إلى تركيا كداعم إقليمي وحليف استراتيجي في ظل التهديدات الأمنية والعسكرية في المنطقة. هذا دون إغفال مخاوف بعض الدول العربية بشأن طبيعة ونطاق هذا التحالف. وعلى الرغم من تقاطع مصالح القوى العربية مع المصالح الاستراتيجية لتركيا في سوريا، وأبرزها كبح النفوذ الإيراني وضبط التدخل الإسرائيلي، لا تزال بعض الدول العربية لديها مخاوف بشأن تأثير أنقرة المحتمل على صنع القرار السوري وتوسيع نفوذها في المنطقة عبر سوريا. إلا أن حرص أنقرة على تجاوز إرث العلاقات المضطربة مع المحور العربي على مدى العقد الماضي ساهم في جعل العلاقات العربية التركية في السياق الإقليمي الحالي تبدو أقل توتراً وأكثر تنسيقاً مما كانت عليه خلال الربيع العربي (عندما كانت تُدار القضية السورية بشكل تنافسي). أما اليوم، فيبدو مستوى التنسيق بين الجانبين أكبر، وهو ما انعكس منذ سقوط نظام الأسد في سوريا في زخم دبلوماسي تركي عربي. وكانت أبرز نتائجها القمة الخماسية التي عقدتها الأردن وتركيا والعراق ولبنان وسوريا على المستويات الخارجية والدفاعية والاستخباراتية مطلع مارس/آذار. وركزت القمة على أهمية التعاون، لا سيما على الصعيد الأمني لمكافحة الإرهاب، وهي خطوة يبدو أن واشنطن تنظر إليها بإيجابية.
من ناحية أخرى، يتزايد القلق بشأن دور تركيا في مخيلة الأمن القومي الإسرائيلي، الذي يعتبرها تهديداً معقداً، سواء من حيث إنشاء قواعد عسكرية جديدة في سوريا أو التحالف مع حكومة دمشق الجديدة، أو من حيث إمكانية زيادة التعاون العربي التركي في سوريا. وفي هذا السياق، يبدو أن إسرائيل تفضل استمرار وجود موسكو في سوريا كقوة موازنة للقوى التي تسيطر عليها (على عكس الأوروبيين الذين يسعون إلى تحقيق عدة مصالح، أبرزها الحد من النفوذ الروسي إلى أقصى حد ممكن) وضمان بقاء سوريا مسرحاً للمصالح المتضاربة التي تمنع ظهور حكومة مركزية قوية.
لذلك، يُمثل التهديد الإسرائيلي اليوم أحد أبرز التحديات المُعقّدة التي تواجه الحكومة السورية الجديدة وسياستها الخارجية، لا سيما في ظل وجود حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، التي تنظر إلى هيئة تحرير الشام من منظور مُشابه لنظرة حماس، بغض النظر عن الاختلافات بينهما. في هذا السياق، تخشى إسرائيل تكرار سيناريو السابع من أكتوبر/تشرين الأول على حدودها الشمالية الشرقية. كما تنظر إسرائيل إلى جغرافية سوريا كمنطقة حيوية لها، في وقت تسعى فيه إلى فرض هيمنتها الإقليمية انطلاقًا من تفوقها العسكري-التكنولوجي. هذا ناهيك عن مساعي نتنياهو لاستغلال سوريا وتصديرها كتهديد جديد في محاولة للهروب من تبعات حرب غزة وتداعياتها على مستقبله السياسي.
في هذا السياق، تحوّلت الانتهاكات الإسرائيلية، التي سجّلت قرابة 700 غارة جوية خلال أربعة أشهر، إلى سياسة شاملة تشمل التوغلات البرية، والسيطرة على نقاط استراتيجية، ومحاولات الاختراق الاجتماعي والاستخباراتي، واختراق الأجواء. يرتكز هذا على رهان على فشل الحكومة الحالية على المديين القصير والمتوسط، مما سيزيد من احتمالات الفوضى، ويحافظ على مناطق نفوذ مختلفة، ويحول دون تشكيل حكومة مركزية قوية، ويعيد تأهيل قدرات الجيش السوري على حدوده. كما قد يزيد الضغط مستقبلاً لضمان إعادة صياغة الاتفاقات السياسية-الاستراتيجية لصالحه، بما يتوافق مع مسارات التطبيع العربي خلال السنوات الماضية. ولن تقل تداعيات ذلك داخلياً خطورة عن تداعياته الخارجية.
سوريا دولياً: مصالح متشابكة وفرص مشروطة
تشير المعطيات بوضوح إلى أن فرص كبح جماح السياسة التوسعية الإسرائيلية تكمن بالدرجة الأولى لدى إدارة ترامب، وثانياً لدى الاتحاد الأوروبي. ويشبه ذلك مساعي ترسيخ الشرعية الدولية ورفع العقوبات، والتي تُمثل أحد أهم التحديات على المديين القصير والمتوسط، لا سيما في ظل ارتباطها بمصالح ومطالب الطرفين (الأوروبي والأمريكي) ومرونة الإدارة السورية وتجاوبها معها. في حين حققت الولايات المتحدة معظم مصالحها المعلنة بعد تحجيم النفوذ الإيراني والقضاء على داعش، فإن ضمان هذه المصالح وغيرها بشكل مستدام يمثل الهدف الأساسي للإدارة الأمريكية الجديدة، التي تعتبر سوريا محورية في إطار استراتيجية أوسع في المنطقة لـ”مكافحة الإرهاب” وضمان أمن حلفائها، وخاصة إسرائيل، لا سيما في حال انسحابها من سوريا، وضمان ملء الفراغ بما لا يزعزع استقرار المنطقة.
رغم الإشارات الإيجابية الصادرة عن الموقف الأمريكي تجاه التغيير الحاصل في سوريا، منذ عملية الردع وحتى يومنا هذا (الضغط على الجانب العراقي لمنع دخول قوات الحشد الشعبي، والتعاون الاستخباراتي في ملف داعش، والانتقال السلس لتكتل “جيش سوريا الجديد” العامل في التنف إلى وزارة الدفاع الجديدة، ودفع قوات سوريا الديمقراطية للتفاوض، وغيرها)، لا تزال واشنطن تفرض عدة شروط ومتطلبات لاعترافها بالحكومة السورية الجديدة، تتراوح بين هيكلية السلطة القائمة وتكوينها وتوجهاتها، ومكانتها الإقليمية والدولية. في هذا السياق، تُشجّع أيضاً على تشكيل آلية تعاون إقليمي بين دول الجوار، بهدف مكافحة الإرهاب (تركيا، الأردن، العراق، لبنان، سوريا)، تمهيداً لسدّ الفراغ الناتج عن الانسحاب المُحتمل لقواتها، وضمان عدم تحوّل سوريا مجدداً إلى بؤرة للجماعات المتطرفة التي تُهدّد الأمن الإقليمي والدولي.
أما المطالب الأوروبية، فتدور بعض هذه المصالح في فلك أمريكا، بينما يبتعد بعضها الآخر عنها، لا سيما فيما يتعلق بإنهاء الوجود الروسي في سوريا. لا تبدو واشنطن مُتحمّسة لإنهاء النفوذ الروسي بالشكل الذي تُطالب به أوروبا، لا سيما في ظلّ مساعي إسرائيل للحفاظ على هذا النفوذ كثقل إقليمي مُوازن. من جهة أخرى، تتقاطع أولويات معظم الدول الأوروبية في سوريا حول قضية اللاجئين ومكافحة الإرهاب، بينما تتعلق أولويات أخرى بالدور الجيوسياسي لسوريا في المنطقة، بما في ذلك ترسيم حدودها البحرية في البحر الأبيض المتوسط، حيث تبرز أيضاً المصالح التركية. في هذا السياق، رعت فرنسا اجتماعاً افتراضياً جمع رؤساء فرنسا واليونان وقبرص وسوريا. وسبق ذلك اجتماع آخر لترسيم الحدود السورية اللبنانية، انتهى بتوقيع اتفاقية برعاية سعودية.
في المقابل، ورغم انفتاح معظم الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، على السلطات السورية الجديدة – سواءً في السياق الأولي لتبادل المعلومات ومكافحة الإرهاب، أو من خلال انخراطها السياسي الإيجابي-الحذر، كإعادة فتح السفارات، وتعزيز التواصل والتمثيل الدبلوماسي، والترحيب بتشكيل الحكومة الجديدة – إلا أن استمرار هذا الانفتاح، واستكمال رفع العقوبات، والانخراط الحقيقي في إعادة الإعمار، لا يزالان مرتبطين بتغييرات واضحة وملموسة في شكل وسياسات الحكومة الجديدة. وهذا يُشكّل تحديات إضافية للإدارة الجديدة، ويختبر جدياً قدرتها على التعاطي مع الاهتمامات والمصالح الغربية، ونهجها تجاه المصلحة الوطنية، دون تقديم تنازلات قد تؤثر على تماسكها الداخلي.
في المقابل، يبدو هامش المناورة أمام موسكو أضيق، بعد أن خسرت أهم حلفائها وأدواتها في سوريا. تترقب روسيا بحذر النتائج النهائية لمفاوضاتها مع الغرب، بقيادة الولايات المتحدة في عهد ترامب، بشأن حربها في أوكرانيا، وشكل التسوية المحتملة، وتداعياتها على موقع روسيا وتحالفاتها في النظام الدولي والإقليمي. في الوقت نفسه، تسعى موسكو، في إطار الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، إلى موازنة علاقتها مع الإدارة السورية الجديدة، وفتح هوامش واضحة للمناورة مع الغرب، وخاصة الأوروبيين. وهذا ما تدركه الإدارة السورية، وتسعى إلى استغلال هذه الهوامش وفتح هوامش جديدة، مثل استعادة العلاقات مع الصين. وتدرك أن هذه الهوامش يمكن توظيفها في مبادرات تنموية اقتصادية وسياسية تُسهم في تعزيز الاستقرار، وإيجاد هامش للمناورة في المفاوضات مع الغرب، بدلاً من الانجرار إلى الاستقطاب بين المحاور الدولية والإقليمية، وهو ما يُشكل مخاطر في هذه الظروف الحساسة. في ظل هذه المصالح المتشابكة، يتمثل التحدي الأبرز الذي تواجهه الإدارة الانتقالية السورية في تحويل سوريا والنهوض بها من مسرحٍ لصراع المصالح الإقليمية والدولية إلى ساحةٍ لبناء التوافقات وتلاقي المصالح. ويتحقق ذلك من خلال فهم دقيق لخارطة المصالح المختلفة ومنهجيتها في التعامل مع الأولويات الوطنية، انطلاقًا من تحالفات استراتيجية واضحة تُسهم في ضمان الاستقرار والأمن الوطني، وتجنب لعبة التوازن بين المحاور في السياسة الخارجية. ويبدو هذا النهج الأخير رهانًا خطيرًا في ظل وضعٍ حساسٍ يشهد تحالفاتٍ هشةً وغير مكتملة، وسلطةً حديثة التشكل.
