ملخص تنفيذي
بعد انهيار نظام الأسد، ووسط تباين الرؤى حول مستقبل سوريا الانتقالي، عادت مسألة توزيع السلطة على الأراضي السورية إلى الواجهة. وللإجابة على هذا السؤال، من المفيد النظر في مفهوم ظهر قبل بضع سنوات: الحوكمة متعددة المستويات. يُشكل هذا المفهوم إطارًا لتحليل آليات تحديد الصلاحيات وصنع القرار بين المؤسسات الوطنية والإقليمية والمحلية. كما يُمكن استخدامه كمنظور نقدي لتقييم إخفاقات الماضي واستكشاف نماذج الحوكمة المستقبلية. لا تقتصر الحوكمة متعددة المستويات على التصميم الإداري فحسب، بل هي قضية سياسية تمس تمثيل جميع شرائح المجتمع وشمولها، وقدرة صنع القرار المحلي، والمساءلة.
في السياق السوري، تعرضت جهود اللامركزية الرسمية للتقويض بشكل متكرر بسبب السيطرة الرسمية وغير الرسمية من قبل المركز. لذلك، يُعد الفهم الشامل للاقتصاد السياسي للحوكمة على مختلف المستويات أمرًا بالغ الأهمية لتصميم انتقال مستقر وشامل. جمع نظام الولايات العثماني بين التعيين المركزي وأشكال من المجالس الاستشارية المحلية، مما أرسى سابقة راسخة لحكم هرمي يُدار من المركز، مستخدمًا طبقات الحكم المحلي لموازنة بعضها البعض للحد من أي نزعات انفصالية. تُوفر دراسة هذا النظام العثماني منظورًا تاريخيًا هامًا لفهم التوترات طويلة الأمد بين ضرورات التماسك الإقليمي واستقلالية صنع القرار المحلي – وهي توترات لا تزال محورية في المناقشات حول تصميم أنظمة الحكم في سوريا ما بعد الصراع.
ساهم النهج المتناقض للانتداب الفرنسي – التشرذم السياسي المُدار من خلال المؤسسات الإدارية المركزية – في إرساء أسس الدولة الوحدوية ذاتها التي سعت فرنسا إلى منعها. أدى ضعف المؤسسات المحلية ومركزية صنع القرار إلى ظهور اقتصاد سياسي وطني تُحكم فيه المحليات بناءً على أوامر المركز، عاجزة عن تمثيل مصالحه. لا يزال إرث هذا النموذج يُلقي بظلاله على معضلات الحكم في سوريا حتى يومنا هذا. في حين شهدت السنوات الأولى لسوريا بعد الاستقلال قطيعة مع مشاريع التفتيت الاستعمارية، إلا أنها لم تُبدّل هذا الإرث بتعددية مؤسسية حقيقية. بل أسست نظام حكم شديد المركزية يهدف إلى الحفاظ على هيمنة النخب الحاكمة في العاصمة. استند هذا النموذج إلى أدوات تشريعية، ورقابة بيروقراطية، ونزعة سياسية مركزية ظلت راسخة في بنية الدولة السورية على مدى العقود التالية.
اتسمت السلطة المركزية بتعددية الطبقات، لا بالتسلسل الهرمي. ورغم وصف النظام السوري في عهد حافظ الأسد وابنه بشار بأنه نظام مركزي أو شخصاني، إلا أن السلطة كانت موزعة فعليًا عبر شبكة كثيفة من المؤسسات الوسيطة – مثل حزب البعث، والأجهزة الأمنية، والوزارات الحكومية، والبرلمان، وشبكات المحسوبية غير الرسمية.
اتسم نظام الحكم في عهد الأسدين بالفوضى الوظيفية، وتفشي الفساد، وافتقاره إلى المشاركة الشعبية الحقيقية. في المقابل، أسس شبكة واسعة من المعايير الإدارية والقانونية التي خلقت قيودًا مرتبطة بالعمليات الروتينية والإدارية المتجذرة بعمق في الاقتصاد السياسي للحكم. وبالتالي، لم يكن من السهل القضاء عليها بسقوط النظام أو بإصلاحات قانونية جزئية. تُنذر إعادة المركزية بإعادة إنتاج الاستبداد. قد تنشأ ضغوط خلال المرحلة الانتقالية لإعادة بناء الدولة من خلال إعادة التركيز على السلطة المركزية لتحقيق الكفاءة والاستقرار والوحدة الوطنية. ومع ذلك، إذا حدث ذلك دون ضوابط مؤسسية وقوة مؤسسية على المستوى المحلي، وكذلك دون ضمانات مالية وإدارية وسياسية على المستوى دون الوطني، فإنه يفتح الباب على مصراعيه لإعادة إنتاج نفس الهياكل الزبائنية والاستبدادية التي ميزت حقبة البعث، وإن كان ذلك في شكل أيديولوجي جديد. يتطلب تفكيك إرث البعث استراتيجية شاملة لا تقتصر على تعديل قانون الإدارة المحلية أو إجراء انتخابات. بل يجب أن تشمل إعادة صياغة التعريف الدستوري لمؤسسات الدولة، وتوزيع الصلاحيات، وإصلاح مجموعة واسعة من المؤسسات المركزية، مثل القضاء والبنك المركزي والأنظمة المالية وإصلاح قطاع الأمن. وبدون هذه الاستراتيجية الشاملة والتدريجية، فإن أي جهود إصلاحية سوف تظل عرضة للاحتواء من جانب هياكل السلطة القديمة والجديدة، أو قد تخلق فراغات في الحكم من شأنها أن تزيد من احتمالات عدم الاستقرار.